إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي

 


"إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً..." – بلاغةٌ إلهية في أضعف المخلوقات

قال الله تعالى في كتابه العزيز:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾
سورة البقرة، الآية 26.

هذه الآية الكريمة من أوائل ما نزل في المدينة، وهي ردٌّ على تساؤلات واستهزاء بعض الكفار والمنافقين الذين رأوا في أمثال القرآن إشارات لمخلوقات صغيرة كالعنكبوت والبعوض، فتطاولوا وقالوا: ما بالُ ربّكم يذكر هذه الحشرات في كتابه؟!
فكان الرد الربّاني واضحًا، مهيبًا، فيه من البلاغة والعظمة ما يُخرس أفواه المستهزئين، ويهدي قلوب المتأملين.


بلاغة المثل في القرآن الكريم

المثل في القرآن ليس غرضه الترف أو التشويق، بل هو أداة ربانية للتقريب والتوضيح. والبعوضة – على صغر حجمها – تمثّل دقة الخلق، وعظمة التصميم، وقدرة الخالق جلّ وعلا. فإن كانت العقول تستهين بها، فإن الله جلّ في علاه لا يستحيي أن يضرب بها مثلًا، لأن في خلقها من العِبر ما يفوق أعظم المخلوقات.

الاستحياء في الآية ليس معناه الخجل الذي يعتري البشر، بل معناه الامتناع عن فعل شيءٍ مراعاةً للمقام، والله سبحانه منزّه عن ذلك.
فهو عزّ وجل لا يمتنع أن يضرب مثلًا بما يشاء، سواء كان ذلك بمخلوق عظيم كالجبل أو بمخلوق دقيق كالذرة والبعوضة، لأن الغاية ليست حجم المثل، بل ما يحمله من عبرة.


"فما فوقها"… تعبير بديع

وقوله: "فما فوقها" يحتمل وجهين من التفسير:

  1. أي ما هو أكبر منها، أي أن الله يضرب المثل بالبعوضة وما فوقها حجمًا من المخلوقات.

  2. أو ما هو أدقّ منها، أي ما هو فوقها في الدقة والضآلة، كالميكروبات والفيروسات، مما لم يكن يدركه الناس في زمن نزول القرآن، ولكنه اليوم يُرى بالمجاهر الدقيقة… وسبحان من أحاط علمه كل شيء.


المؤمن والفاهم، والمكابر الجاهل

ثم تمضي الآية لتُفرّق بين موقفين:

  • المؤمن حين يرى هذا المثل، يزداد إيمانًا، لأنه يعلم أن الحق من ربه، وأن كل شيءٍ له حكمة.

  • أما الذين في قلوبهم مرض، فإنهم يستخفّون بهذه الأمثال، ويقولون: ما معنى هذا المثل؟ فيُضرب الحجاب بينهم وبين نور الهداية.

قال تعالى بعدها:
﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾
فالقرآن نفسه يكون سبب هداية أو سبب ضلال، بحسب نية المتلقّي واستعداده لفهم الحق.


خاتمة: عِبرة في خلقٍ صغير

عندما ننظر اليوم إلى مخلوق مثل البعوضة، ندرك كم كان هذا المثل الإلهي عظيمًا…
مخلوق صغير، لكنه يحمل تعقيدًا في تركيبه، يعيش على دم المخلوقات، يسبب أمراضًا وأوبئة، ويُشكّل خطرًا يفوق أحيانًا أعظم الكائنات.
إنه ليس مجرد حشرة… بل هو آيةٌ قائمة شاهدة على عظمة الخالق، وعلى دقة خلقه، وعلى أن العِبرة ليست بالحجم، بل بالحكمة الكامنة خلف الخلق.

فلنتأمل، ولنُصغِ لبلاغة القرآن، لا بأذن الجسد، بل بأذن القلب… علّنا نكون من الذين يهديهم الله بالمثل، لا ممن يُضِلّهم به.

3 تعليقات

رأيك يهمني — شاركني بالتعليق 🌿

  1. بسم الله ماشاء الله.. جداً الرسمة جميلة بالتوفيق ان شاء الله .. عبد العزيز

    ردحذف
  2. سلمت الانامل التي رسمت وفقك الله وسدد خطاك

    ردحذف
  3. {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً}، بلاغة ربانية جسّدت بمهارة قوة المعنى في أبسط خلقه. أحسنتِ وأبدعتِ.
    دمتِ مباركة، وزادكِ الله من نوره وعلمه

    ردحذف
أحدث أقدم